فصل: الفائدة الثانية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.الفائدة الثانية:

أنه يعين على فهم الحكمة، التي يشتمل عليها التشريع، وفي ذلك فائدة للمؤمن، وغير المؤمن؛ أما المؤمن فيزداد إيمانا وبصيرة بحكمة الله في تشريعه فيدعوه ذلك إلى شدة التمسك بها، وأما غير المؤمن فيعلم أن الشرع قام على رعاية المصلحة، وجلب المنفعة، ودفع المضرة، فيدعوه ذلك إن كان منصفا إلى الدخول في الإسلام، وذلك مثل ما إذا عرفنا سبب تحريم الخمر، عرفنا الحكمة في التحريم؛ إذ أنها توقع العداوة والبغضاء بين الناس وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتذهب العقل والوقار، وتضر بالصحة، وتفني الأموال في غير طائل.

.الفائدة الثالثة:

رفع توهم الحصر: قال الشافعي- ما معناه- في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ...} [الأنعام: 145] الآية، إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة، والمحادة، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلوى، فنقول له: لا آكل اليوم إلا حلوى، والغرض: المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة؛ فكأنه قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به.
ولم يقصد حل ما وراءه، إذ القصد: إثبات التحريم لا إثبات الحل، قال إمام الحرمين: وهذا في غاية الحسن، ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات، فيما ذكرته الآية، وهذا قد يكون من الشافعي أجراه مجرى التأويل.

.الفائدة الرابعة:

معرفة اسم من نزلت فيه الآية، وتعيين المبهم فيها، وفي ذلك إسناد الفضل لأهله، ونفي التهمة عن البريء الذي ألصق به ما هو براء منه، وذلك مثل ما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها ردت على مروان بن الحكم حينما اتهم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر بأنه الذي نزل فيه قوله تعالى: {وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ...} [الأحقاف: 17] الآية، وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته. رواه البخاري.
ومثل ما إذا عرفنا سبب النزول في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} [سورة البقرة: 207].
عرفنا أن صاحب الفضل هو سيدنا صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه وكذا إذا عرفنا سبب نزول قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ...} [الأحزاب: 37] الآية، علمنا أن المنعم عليه هو سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه والآية وإن جاء فيها {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً} ولكنها لم تبين من هو زيد هذا فبين سبب النزول أنه زيد بن حارثة.

.الفائدة الخامسة:

معرفة أن سبب النزول غير خارج من حكم الآية فيما إذا كان لفظ الآية عامّا، وورد مخصص لها؛ فبمعرفة السبب يكون التخصيص قاصرا على ما عداه لقيام الإجماع على دخول صورة السبب، ولو لم نعرف السبب لجاز أن يكون مما خرج بالتخصيص، مع أنه لا يجوز.

.الفائدة السادسة:

تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ؛ فعند هؤلاء ما لم يعرف السبب لا يمكن معرفة المقصود بالحكم، ولا القياس عليه، وتبقى الآية معطلة خالية من الفائدة.

.الفائدة السابعة:

تثبيت الوحي، وتيسير الحفظ والفهم، وتأكيد الحكم في ذهن من يسمع الآية، إذا عرف سببها؛ وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص، والأزمنة والأمكنة، كل ذلك من دواعي تقرر الأشياء؛ وانتقاشها في الذهن، وسهولة استذكارها عند تذكر ما يقارنها، وذلك هو فيما يعرف في علم النفس بقانون تداعي المعاني.

.التعبير عن سبب النزول:

للعلماء في ذلك طريقتان، استفيدتا من تتبع عباراتهم في هذا المقام:
الأولى: قولهم: سبب نزول هذه الآية كذا، وهذه العبارة نص في بيان السبب، ولا تحتمل غيرها ومثل هذه العبارة أن يذكر الراوي سؤالا أو حادثة ثم يقول: فأنزل الله كذا، فهذه نص أيضا، وقد لا يصرح بالإنزال، ولكن يفهم من فحوى القصة أن هذه الآيات أو الآية نزلت بسبب هذا السؤال أو الحادثة، وذلك مثل رواية ابن مسعود الآتية في سبب نزول آية الروح.
الثانية: قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، وهذه العبارة ليست نصا في السببية، بل تحتمل السببية، وتحتمل بيان المعنى، وما تضمنته الآية من الأحكام، والقرائن هي التي تعين أحد هذين الاحتمالين أو ترجحه.
قال العلامة تقي الدين ابن تيمية: قولهم: نزلت الآية في كذا، يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب؛ كما تقول: عني بهذه الآية كذا، وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد، وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه الآية، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند.
وهذا الذي ذكره ابن تيمية وغيره من أن الآثار التي ذكر فيها سبب النزول صراحة لها حكم المسند المرفوع هو الذي ذهب أئمة علوم الحديث إليه، قال الحاكم في علوم الحديث: إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا، فإنه حديث مسند، ومشى على هذا ابن الصلاح وغيره من أئمة الفن، قال ابن الصلاح في مقدمته:
وما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر بها الصحابي أو نحو ذلك.
وقال الزركشي في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع.

.قول التابعي في سبب النزول:

قد علمت مما تقدم من أن قول الصحابي في سبب النزول له حكم المسند المرفوع، وأما قول التابعي في أسباب النزول فهو مرفوع أيضا، لكنه مرسل لحذف الصحابي، وقد يقبل إذا صح السند إليه، وكان الراوي من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل آخر، أو نحو ذلك.
تفريع على ما تقدم: وعلى هذا إذا وردت روايتان أو أكثر، وكانت إحداهما نصّا في بيان سبب النزول والثانية ليست نصّا فيه، أخذنا في السببية بما هو نص، وحملنا الأخرى على بيان المعنى؛ مثل ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر قال: كانت اليهود تقول من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله سبحانه: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 222] الآية، أي من أي جهة شئتم، أو على أي حال شئتم، فأنى للكيفية، والحال، لا للمكان.
وما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: أنزلت {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ...} في إتيان النساء في أدبارهن، يعني في تحريم ذلك.
فالمعتمد عليه في بيان السبب هي رواية جابر لكونها نصّا في ذلك، أما رواية ابن عمر فتحمل على بيان المعنى، وحكم إتيان النساء في أدبارهن وهو التحريم، استنباطا منه، وهذا هو اللائق بالصحابي؛ القول بالتحريم.
وأما إن قال- كل من الراويين أو الرواة-: نزلت هذه الآية في كذا فهذه العبارة ليست نصّا في السببية كما ذكرنا، بل تحتمل بيان التفسير والمعنى، فإن كان اللفظ يحتمل قول كل حمل على الجميع، وإلا ترجح ما يقتضيه اللفظ أو يشهد له السمع، أو تؤيده الأدلة.
وأما إذا كانت كل من الروايتين أو الروايات نصّا في بيان السبب، فهنا يكون البحث والنظر، ولنفرد لذلك عنوانا، فنقول:

.تعدد الأسباب والمنزل واحد:

إذا ذكر كل من الراويين أو الرواة عبارة هي نص في السببية، فلذلك أحوال أربعة، لأنها:
1- إما أن تكون إحدى الروايتين صحيحة، والأخرى غير صحيحة.
2- إما أن تكون كل منهما صحيحة، ولكن يمكن الترجيح.
3- وإما أن تكون كل منهما صحيحة، ولا يمكن الترجيح، ولكن يمكن نزول الآية عقبها.
4- وإما أن تكون كل منهما صحيحة، ولا يمكن الترجيح، ولا نزول الآية عقبها.
وإليك حكم كل حالة من هذه الحالات، وذكر أمثلتها:

.الحالة الأولى:

أن تكون إحدى الروايتين صحيحة، والأخرى غير صحيحة، فالمعتمد عليه في السبب: هي الصحيحة وترك الأخرى غير الصحيحة، مثال ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما، عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة، أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: ما أرى شيطانك إلا قد تركك.
فأنزل الله: {وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}.
وما أخرجه الطبراني، وابن أبي شيبة في مسنده، والواحدي وغيرهم بسند فيه من لا يعرف عن حفص بن ميسرة، عن أمه، عن أمها- وكانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جروا دخل بيت النبي، فدخل تحت السرير، فمات فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة ما حدث في بيت رسول الله جبريل لا يأتيني فقلت في نفسي لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم- ترتعد لحيته- وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فأنزل الله: {وَالضُّحى...} إلى قوله: {فَتَرْضى}.
فالمعتمد عليه هو الرواية الأولى؛ لأنها صحيحة، أما الثانية ففي إسنادها من لا يعرف، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب بل شاذ مردود، وفي إسناده من لا يعرف، فالمعتمد ما في الصحيح.